جهلاء.. ونكابر؟!
بقلم صالح رجب
أعترف، وبعد رحلة طويلة دامت 58 عامًا مع الحياة، أنني اكتشفت اليوم شيئًا كان غائبًا عني، رغم قربه مني. اكتشفت أنني، كالكثيرين، جاهل ولكنني أكابر.
اسمحوا لي أن أقصّ عليكم قصة قصيرة كانت بمثابة زلزال أفاقني من غيبوبة طويلة.
منذ سنوات طويلة، وأنا أعاني من حكة شديدة وهرش مؤلم، خاصة في فصل الشتاء. وبما أنني “عالم ببواطن الأمور”، وحائز على “جائزة نوبل في علوم الدنيا” ـ كما كنت أتخيّل ـ أقنعت نفسي أنني مصاب بحساسية من الصوف منذ ولادتي. كلما اشتدت الأعراض، أسرعت إلى الهاتف لأطلب من الصيدلية حقنة مضادة للحساسية، دون أي استشارة طبية.
لا تسخروا مني، فأنا وحدي أعرف كم عانيت من آثار هذه الحقن، التي كنت أُعطيها لنفسي دون إرشاد، فدخلت بعدها في دوّامة من الجراحات بسببها. ومع ذلك، استمرت قصتي حتى اليوم، الذي شعرت فيه أنني وُلدت من جديد، إنسانًا يعرف حجم نفسه وحدود علمه.
في أحد الأيام، كنت أروي قصتي بفخر أمام شاب نجم في كلية الطب، على وشك التخرج، وكأنني أتباهى بما فعلته في نفسي! كنت أصف له كيف استخدمت كل الآلات الحادة لتخفيف الهرش، وألقيت باللوم على الزمن الذي أصابني بهذه الحساسية منذ الصبا.
فجأة، التفت إليّ هذا الشاب الذي أدعو الله أن يحفظه، وسألني بهدوء: “أين تشعر بأشد الألم؟”
وبطبيعة الحال، باعتباري “عالمًا بلا دراسة”، أجبت بضحكة ساخرة: “الحساسية تأتي في كل مكان يا عزيزي!”
لكنه تحمّل إجابتي بصبر يُحسد عليه، وأعاد السؤال مجددًا: “فقط حدّد الأماكن الأكثر إيلامًا”.
أجبته: “قدمي، وساقي، وظهري”.
فقال لي بحزم: “وكيف تعرّض قدميك وساقيك للجروح وأنت مريض بالسكر؟ هذا يُمثّل خطرًا داهمًا عليك”.
توقف قليلًا، ثم سألني بصوت هادئ كأنه مقطوعة شعرية من أحمد شوقي على ألحان السنباطي:
“هل تتناول دواء لتقوية الأعصاب؟”
قلت له بفخر: “لا، فأعصابي حديد!”
فأعاد سؤاله بصبر: “وماذا عن الفترة التي كنت تتناول فيها هذا الدواء، هل كنت تعاني من الحساسية وقتها؟”
قلت: “لا، لأنني كنت أتناوله في الصيف، وأنا لا أعاني من الهرش إلا في الشتاء”.
سألني بهدوء: “ما اسم الدواء؟”
أخبرته بالاسم، فسارع إلى حاسوبه وقرأ معي دواعي استخدامه. هنا كانت الصدمة:
“الدواء يُستخدم لعلاج آلام الأعصاب الناتجة عن مرض السكري”.
تساءلت بدهشة: “وماذا يعني هذا؟ فأنا كما قلت لك أعصابي حديد، ولا أشعر بأي ألم بها!”
ابتسم الشاب وقال لي بلطف يُشبه نسيم الفجر: “الهرش أيضًا من آلام الأعصاب يا أستاذ”.
في تلك اللحظة، شعرت بمدى جهلي وعنادي، أنا الصحفي الذي يكتب ويُحلل، لكنني تجاهلت أنني لست طبيبًا. لماذا لم أسأل أهل الاختصاص؟ لماذا كنت أعالج نفسي بعناد أحمق؟
سمعت في أذني صوت القرآن الكريم يجلجل: بسم الله الرحمن الرحيم “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”.
صدق الله العظيم.
أدركت كم كنت أحمق. هل قصتي هذه قصتي وحدي؟ أم أنها قصة الكثيرين الذين يُصدرون الفتاوى لأنفسهم، إما كسلًا أو هروبًا من تكاليف الأطباء؟ ثم نعود بعدها نبكي من الألم، ونلقي باللوم على الزمان.
ولكن كما قال الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا.
لنكن صادقين مع أنفسنا. نحن نكابر، ونتجاهل، لكن الحقيقة دائمًا موجودة.. فقط تحتاج لمن يعترف بها.
Average Rating